كلما دخلت عليها غرفتها الصغيرة وجدتها تصلي..
في تلك الزاوية تجلس جدتي متكئة على وسادة وضعتها على كرسيها القديم .. فقد افقدها المرض قدرتها على الصلاة واقفة..
فوق سريرها الخشبي الصغير اجلس انتظرها باشتياق بالغ، تطول لحظات خشوعها وتطول فترة تأملي لذلك المكان.. دولاب ملابسها القديم وآيات القرآن التي تزين تلك الجدران العتيقة. لطالما عهدتها أنيقة في ملبسها وحتى في اختيارها لتلك اللوحات..
عندما تفرغ من صلاتها تنظر إلي بابتسامة، فأرى الشمس تشرق من نافذتها الواسعة واسمع هدير الحمام الذي يزور نافذتها كل يوم... هي الدنيا تشرق عندما تبتسم جدتي.
أقول لها ما أريد، وتستمع إلي بقلب كبير. لم اعرف قلباً علمني الحب كقلبها.. فالدنيا في عينيها صغيرة صغر عينيها العسليتين اللتان تلمعان كالزجاج. لربما مرض السرطان اللعين وآلم العمود الفقري وتلك الخطوط العتيقة في وجهها قد أفقدتها بعضاً من البهاء، إلا ان ابتسامتها لا تزال تحكي أسرار جمالها المدفون.
كل الناس عندها على صواب.. فجدتي كالموج تذهب أينما حركتها الريح.. ولهذا كانت ولم تزل الحضن الدافئ لكل الأسرار.. فهي لا تصدمك بواقع أخطائك كما يفعل الآخرون.. فمن منا يحب سماع كلمات المواعظ والتوبيخ واللوم؟؟
كلما استرجعت شريط ذكرياتي وجدتها حاضرة في كل مقاطع الفيلم الكئيب.. فانا صغيرة كنت اهرب واختبئ خلفها كلما ضربتني أمي على أفعالي المشاكسة، وتظل تدفع عني كل أذى، وتؤنب أمي قائلة لها: " لا تنسي انك كنت صغيره مثلها في احد الايام ".. نعم، هذا صحيح! لماذا يعاقبنا الكبار على شقاوة طفولة قد عاشوها أنفسهم يوما ما؟؟ لكن جدتي لم تكن لتنسى كالكبار!
أتذكر عندما كانت ازعل من امي الحبيبة كنت اجمع ( كشتي ) واذهب لبيت جدتي الملاصق لبيتنا.. فاقعد هناك بالأسابيع.. فقد كان بيتها مأوى للبؤساء من العائلة أمثالي ..............
في امتحانات الثانوية طاب لي المقام هناك .. فكنت أنام بجانبها كل ليلة اسمع لسانها يلهج بالذكر وبنبرتها الحانية تقول: " نامي يابنتي وسأصحيكِ الفجر لتراجعي دروسك"... لم أكن بحاجة إلى منبه فهي التي تصحو الليل تصلي في محرابها الطاهر حتى الفجر.. ومع أنسام الفجر العليلة أراها تحتضن جوعي وقلقي بفنجان " بُن بالحليب" و كعك خالتي اللذيذ.
كلما رأيت السماء تمطر عرفت أن جدتي تبكي.. فأنت لا ترى دموعها إلا في المواسم الباردة.. عند مرض جدي( رحمه الله) او مضايقة احد اولادها لها، او عند سماعها للذكر في الراديو.
علمتني الحياة بكلمتين: " اذكري الله يا بنتي كلما لهيتي بالدنيا ".. تدينها وتعلقها بالله لم يمنعها من تفهمنا كفتيات مراهقات.. فبينما كانت أمي توبخنا على سماع الأغاني والأفلام كانت جدتي تضحك وتقول لها: " خليهم يفرحوا بكره يكبروا ويعقلوا"... نعم جدتي لقد كبرنا وربي الحمدلله هدانا
ليست كجدات القصص.. فهي لا تروي لنا حكاية قبل النوم ولكنها تقص لنا اخبار الزمن العتيق يوم كانت الدنيا تحت عهد الإمام وكانت ظروف المعيشة قاسية... كلما تحدثت هي اشعر بأن الزمن يتوقف عند آخر نقطة.
أراها في كل المواسم .. أراها في كل الزوايا.. اتودد اليها كي تسمح لي بكنس غرفتها الصغيرة.. فانا اشعر بأنني أتطهر بدخولي محرابها الطاهر. فكل شيئ نظيف ومرتب وتحت وسادتها اعثر دائماً على قطع الحلوى اللذيذة، هي لا تأكلها بالطبع وإنما تظل تشتريها للأطفال الذين يحبونها أكثر من حبهم لأمهاتهم!
عيناها لا تزالان تلمعان كالزجاج في الشمس.. ودعتها ليلة سفري وأمطرتني بوابل الدعاء.. هطلت الأمطار يومها بغزاره وقلبي يردد كلمة " سأشتاق إليكِ "
واليوم وقد أدماني الحنين لرؤية جمال عينيها ،وكلما نظرت الى زجاج نافذتي وهي تمطر عرفت أن جدتي تبكي.
سحر ~ اليكِ جدتي الحبيبه ~
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق